يمتلك المصريون مواهب لفظية وكلامية لا حد لها، وقدرة على التلاعب بالكلمات تدير الرءوس. وهي حقا دليل قوي على الذكاء الفطري اللحظي الذي ينطلق به اللسان المصري الشهير ببراعة لفظية حقيقية..
بعيدا عن النكات وبراعتنا فعلا في تشكيلها وصياغتها والملكة القوية في السخرية على أحلك المواقف والسياسية منها خاصة.. لكن هناك حالة غريبة من تحويل جمل عادية جدا إلى أخرى تحمل إيحاءات لا تمت لمجموع حروف الجملة بصلة.. وقد تتعرض لمواقف محرجة للغاية إذا لم تكن على دراية بكل هذه التكنولوجيا اللفظية، فتتحدث ببراءة وسذاجة في كلام تراه بريئا عاديا لتفاجأ بنظرات اللوم والصواعق تحل على رأسك لأن كلامك العادي هذا قد يحمل إيحاءات رهيبة لا تدري معناها، لكن ضررها يقع عليك فتشعر وكأن الأرض ستنشق لتبتلعك من هول ما ارتكبت!
في أولى سنوات الالتحاق بالجامعة والمرء مازال ساذجا بعد لا يدري مفاتيح اللغة الجديدة التي لم تعد مقتصرة على الشباب بل امتدت لكل الفئات والأعمار دون أي تمييز أو تفرقة كانت أولى الصدمات يوم الكشف الطبي، ورهبة أول من يخطو خطواته داخل الحرم الجامعي، وبعد انتهاء الكشف والشهيق والزفير خرجت فإذا بإحدى العاملات تمسك بذراعي كالمتلبس بجريمة وهي تخبرني بكل انتشاء بأنه.."كل سنة وإنتِ طيبة يا عروسة".
تعجبت من هذه الحفاوة الشديدة وبكل سذاجة أجبتها "وحضرتك طيبة"!.. لم أكن أعلم حينها أن تلك العبارة الجميلة لا تعني بالطبع تمنيها لي طيب الحال لكنها تحمل مغزى أعمق من هذا أدركته من نظرتها المستنكرة وتصعبها ثم عبارتها "الحلاوة يا سكر!".. وهكذا اكتسبت خبرة لا بأس بها عن العبارات الخداعة وفهمت أخيرا لماذا صار المصريون يكثرون من ترديد تلك العبارة في كل يوم وكأن أيامنا كلها أعياد قومية!.. ولا تسأل طبعا ما حق الدادة في "الحلاوة" وقت الكشف الطبي فهي تراه يوما بهيجا لابد وأن أكون فيه "طيبة"!
كذلك عند إتمامي إجراءات إخلاء الطرف الروتينية لدى شئون الطلاب بعد نهاية عامي الأول الإعدادي تمهيدا لانتقالي إلى كليتنا أخيرا فكان الموظف يختم لي الأوراق سعيدا ويكثر من الابتسام لدرجة أضحكتني في آخر الأمر ثم ختم جلسة التبسم هذه.. "الشاي بقى"! ..ترددت قليلا ثم أثّرت في نفسي كثيرا أريحيته وكرمه فشكرته "لا شكرا مش عاوزة شاي"، وتنبهت إلى نظرته واختفاء البسمة إياها وأدركت أنها تنويعة على نفس المعنى.. وانتهى اليوم بمروري على اثني عشر قسما ومعملا لإخلاء الطرف وللأسف كان الجميع هناك من جمعية محبي الشاي!
ففعلا المصريون لديهم موهبة خارقة في صياغة جمل بسيطة المعنى لكنها تحمل معنى متواريا لا تستطيع الإمساك به لكنه يطل برأسه واضحا من ثنايا الجملة وعليك أن تكون سريع البديهة لالتقاط المعنى وإلا ستلاحقك نظرات الاستياء ..
وهناك جمل كثيرة.. بعضها قديم كـ"ورينا عرض اكتافك" التي عندما يقولها لك شخص ما ستكون سخافة بالطبع أن تقوم بقياس عرض كتفيك فعلا!.. لكن معنى الطرد واضح دون أية إشارة صريحة، كذلك "يظهر إني جيت في وقت غير مناسب"، فور سماعها ينتابك يقين أن الوقت غير المناسب يعني شيئا ما مخجلا!.. ولتأكدت أن صاحب العبارة يعني أنه قام بضبط أحدهم متلبسا في وضع مشين!..
والعديد من الجمل المعروفة كـ"مع السلامة والقلب داعي لك" التي تعني العكس تماما!.. والكثير الكثير الذي يجب أن يكون المرء حريصا بما فيه الكفاية ويكون مثقفا واعيا مطلعا على أحدث الصيحات في العبارات ذات الإيحاءات المختلفة التي يكون غطاؤها عبارات بريئة المظهر.
إنها نوع من الموهبة اللفظية التي يتمتع بها المصريون بشكل طغى على باقي الملكات.. ففي كل يوم يكتسب المرء خبرة جديدة بعد -بالطبع- أن يكون قد وُضِع في موقف محرج قبلها، وازداد تثقيفا يوما بعد يوم بلغة جديدة تماما على عالمنا لم تعد مقتصرة فقط على عالم الشباب كما كان في الماضي، وإنما أصبحت أكثر عمقا وتنوعا باختلاف الطبقات التي تتلفظ بها، وباختلاف الأماكن، فنفس الجملة قد تحمل أكثر من معنى على حسب المجتمع الذي تلفّظ بها وعلى حسب احتياجاته وثقافته، فتراها في حرم جامعي لها معنى، وفي مصلحة حكومية لها معنى آخر رغم أنها نفس الحروف..
فمن لديه مخزون وخبرات من تلك العبارات متعددة الإيحاءات يتفضل بمشاركتنا إياها لنزيد من ثقافتنا!